يرى أستاذ العلوم الإنسانية الدكتور بسّام الجمل، أنه لا يوجد في أغلب الحالات انسجام بين عدد الفرق التي ضبطها الحديث المنسوب إلى الرسول عليه الصلاة والسلام (72 أو 73 فرقة) وعدد الفرق التي تشكّلت تاريخياً طيلة 4 قرون كاملة.
ولفت إلى أنّ الذي يعنينا في المقام الأوّل ليس عدد الفرق الإسلاميّة، بل ما وراء هذا التعدّد من دلالات تعكس مختلف وجوه تعامل القدامى مع النصوص الدينيّة (قرآن وحديث)، والآليات التي اصطنعوها في بناء منظومات كلاميّة قائمة على الجدال الفكري الراقي حيناً، وعلى الإقصاء المذهبي حيناً آخر.
وأوضح، أنّ العديد من مؤرّخي الفرق استندوا إلى حديث نبويّ، لتعليل افتراق الأمّة الإسلاميّة إلى فرق منذ أواخر القرن الأوّل وبداية القرن الثاني الهجري، إذ روى أنس بن مالك (ت 90 هـ) عن الرسول عليه الصلاة والسلام قوله: «إنّ بني إسرائيل افترقت على إحدى وسبعين فرقة، وإنّ أمّتي ستفترق على اثنتين وسبعين فرقة، كلّها في النار إلا واحدة، وهي الجماعة» (البغدادي، الفرق بين الفرق، ص 7). وفي هذا السياق، نبّه البغدادي إلى وجود روايات أخرى للحديث منسوبة إلى أبي هريرة (ت 59هـ) وجابر بن عبدالله (ت 74هـ) وأبي سعيد الخدري (ت 74هـ) وواثلة بن الأسقع (ت 86هـ)..
وتساءل عن الحقيقة التاريخيّة لهذا الحديث، فهل روى الرسول فعلاً هذا الحديث؟ أم أنّه اختُلِق في وقت متأخّر من تاريخ العقائد الإسلاميّة ونُسب إلى الرسول باطلاً؟ ويجيب: يمكن الحسم في هذه المسألة بتقديم قرائن عدّة مختلفة المراجع، فمنها ما هو مندرج في نظرة القدامى إلى مقاييس الصحّة والكذب في الحديث النبوي، ومنها ما هو متنزّل في الصورة التي رسمها القرآن عن الرسول عليه الصلاة والسلام، ومنها ما هو عائد إلى منهج البحث والتحقيق لدى الدارس المعاصر.
وأوضح، أنّ بعض القدامى من مؤرّخي الفرق لاحظ أنّ الحديث المذكور حديث آحادٍ؛ بمعنى أنّ كلّ رواية من رواياته رواها شخص واحد، فهو (أي الحديث) من هذه الجهة غير متواتر، ومعلوم أنّ الأصوليّين أجمعوا على أنّ أحاديث الآحاد غير ملزمة في الاعتقادات والأمور التعبّديّة، ولذلك يقول ابن حزم (ت 456هـ) في شأن هذا الحديث مع حديث آخر هو «إنّ القدريّة والمرجئة مجوس هذه الأمّة. وهذان حديثان لا يصحّان أصلاً من طريق الإسناد. وما كان هكذا فليس حجّة عند من يقول بخبر الواحد. فكيف من لا يقول به»، ومن ثمّ تبنّى الموقف التالي: «والحقّ أنّ كلّ من ثبت له عقد الإسلام، فإنّه لا يزول عنه إلا بنفي أو إجماع، وأمّا بالدعوى والافتراء فلا». (الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج 3، ص 229). وفضلاً عن ذلك، فإنّ هذا الحديث غير مثبت في صحيحي البخاري (ت 256هـ) ومسلم (ت 251هـ)، ممّا يعني أنّه لم يرتق إلى مرتبة «الصحّة» بالمعنى الذي حدّده المحدّثون القدامى.
التعامل مع حديث الافتراق
ولفت إلى أنّ هذا الحديث اختُلِف في جزئه الأخير، إذ ورد بصيغ مختلفة باختلاف مذاهب رواته الكلاميّة، فحينما قال الرسول متحدّثاً عن الفرق: «كلّها في النار إلا واحدة» قيل له: ما هي يا رسول الله؟ قال: في رواية أولى: «هم أهل العدل والتوحيد» (عند المعتزلة). وفي رواية ثانية: «شيعة أهل بيتي» (عند الشيعة). وفي رواية ثالثة: «المتمسّكون بسنّتي» (عند أهل السنّة). وإذا التفتنا إلى زاوية نظر أخرى في التعامل مع حديث الافتراق، فيبدو أنّه لم يكن متداولاً في أوساط المتكلّمين قبل القرن الثالث الهجري على أدنى تقدير. ونحن نميل إلى هذا الموقف استناداً إلى منهج ظواهري في التعامل مع هذا الحديث، إذ الذي يعنينا منه بدرجة أولى ما ينهض به من وظائف، وبالإمكان رصد وظيفتين أساسيّتين حقّقهما الحديث هما: الوظيفة التبريريّة: بمعنى تبرير واقع الاختلاف الفِرَقي في الإسلام، والتشريع لحقيقة انقسام الأمّة إلى مذاهب كلاميّة شتّى، فكأنّ هذا الاختلاف أو ذاك الانقسام أمراً مقدّراً من الله على المسلمين، وما عليهم إلا القبول بحكمته وحكمه، والوظيفة الأيديولوجيّة: ومفادها إبراز صواب فرقة واحدة من فِرق الإسلام (أهل السنّة أو الشيعة أو المعتزلة)، ورمْي سواها من الفرق بالضلالة والخروج عن ملّة الإسلام. والحاصل ممّا تقدّم، أنّ حديث الافتراق لا يحظى عندنا بالمنزلة نفسها التي حظي بها عند مؤرّخي الفرق الإسلاميّة، إذ لا يمكن التعويل عليه لتحليل/لتفسير واقع الافتراق، والذهول عن الأسباب الحقيقيّة الصريحة والضمنيّة التي يمكن أن تفسّر لنا هذا الواقع.
https://www.okaz.com.sa/