مع دخول رمضان، لا تسكت أجهزة الهواتف عن الطنين والرنين برسائل التهاني من القريب والبعيد، في نقلة كسرت فيها نمط حياة اعتاد عليها الآباء والأجداد في التواصل المباشر، خصوصاً في الأسرة الواحدة وبين الأصدقاء والأحباب والمعارف.
النقلة الجديدة طرحت أسئلة عدة: لماذا أضحت رسائل التواصل الاجتماعي الوسيلة؛ التي سيطرت على التهاني على نقيض ما كان يحدث في السابق في جانب الترابط الاجتماعي والتواصل؟ كيف نعزز الصلات الاجتماعية التي فقدت كثيراً من جمالياتها وعبقها القديم؟
«عكاظ»، طرحت هذه الظاهرة على مختصين في الجوانب الاجتماعية، والتساؤل عن كيفية إعادة الروابط المفقودة..
هل حلّت التكنولوجيا محلّ الروح؟
الإعلامي عبدالغني القش، يعبّر عن أسفه لما وصل إليه حال الروابط الاجتماعية؛ بسبب غزو تهاني الهاتف النقال في كل عام، إذ أضحت جافة لا طعم لها وأغلبها منسوخات وملصقات، وقال: هذا الأمر يفقدنا القوة التي كان يتحلّى بها المجتمع.. قديماً كان الأقارب والجيران والأصدقاء يتزاورون ويتبادلون التهاني بقدوم الضيف الكريم؛ الذي يحلّ مرة في العام ويمضي سريعاً.. إن الروحانية التي يتميز بها هذا الشهر عن غيره بدأت تفقد بعض رونقها في العصر الحديث، فالتقنية الجديدة والتكنولوجيا المعاصرة ضربت بأطنابها في الأرجاء فبدأت تتلاشى أواصر الإخاء والوفاء، لقد عاش المخضرمون في الواقعين ويعرفون الفرق الشاسع بينهما، لذا تجدهم يتجرعون مرارة الحسرة في واقع المجتمع في العصر الحديث.
ويتابع القش: أنه لا بد من الانتباه إلى ذلك، فما أجمل التلاقي والتصافح والتسامح وجهاً لوجه، ذلك المشهد الذي كان يشيع في كل بقعة، تعبق به الروح التي يحملها الإنسان بين جنبيه، ويسعد بها القلب، ويسر فيها الناظر. إن العودة إلى ما كان إليه المجتمع من أواصر يفترض أن تحين، ويحييها القدوات في هذا المجتمع، فالتقنية جامدة، والتكنولوجيا لا يمكن أن تحلّ محلّ الروح.
ويرى الإعلامي القش، المطالبة بعودة الأواصر الجميلة ضرورة حتمية، مع أن البعض يراها غير ذات أهمية، مع أنها في واقعها لها المكانة العليّة والمآلات الإيجابية، وعندما تطرح «عكاظ» مثل هذه المواضيع فهي تُسهم في واقع الأمر بالتنبيه إلى المتغيرات التي لها التأثير السلبي على التماسك، ولنا في قدواتنا المثل الأعلى، فالنبي (صلى الله عليه وسلم) كان يهنئ أصحابه بالشهر، وكذا صحابته الكرام -رضوان الله عليهم أجمعين- كانوا يفعلون ذلك، وتعاقبت الأجيال على هذا جيلاً بعد جيل، فهل يعود المجتمع إلى ما كان عليه؟
خير لا بدَّ منه
«رمضان كل سنة يجينا، عمره ما تغير علينا، كنا نفرح به وحارتنا يصبح الليل نهار وألعاب تلهينا، عصفر وبربر ولب البيت، ومزويقه تلف حولينا، نصوم من ورا الزير ونخرج اللسان يشهد علينا، يا فاطر رمضان يا خاسر دينه، كلبتنا تجرجر مصارينه».. هكذا يسترجع المشرف على ديوانية ثقافية محمود رفيق، عبق الزمن الجميل. ويضيف: هذا واقع لا بد أن نرتضيه فشئنا أم أبينا عوامل كثيرة تجعل هذه الوسيلة مطلباً بل حاجة ملحة، فالمسافات تباعدت والعوائق للوصول الشخصي أصبحت عديدة من زحام السيارات وضيق الوقت، ومع ذلك يرى أن تبادل التهاني والتبريكات بالمناسبات أمر محمود، ولا ننسى أن العلاقات الاجتماعية تنامت بالحجم والكيف والمقصد، فلذا لا بد من الحرص على استثمار أفضل الطرق والأساليب لإثراء جذوة العطاء المحمود والمنشود في التواصل الجميل.
ويؤكد رفيق، على واقع ملحّ في صلة الرحم فهي أولاً أجر ومطلب لضمان استمرار الأسرة جيلاً بعد جيل وعدم فقدان الانتماء.. التواصل قيمة إيجابية ينتج عنها مزيد من التقارب والأجر، وأكثر من ذلك الاقتراب أكثر من الأسرة والأفراد في الأفراح وغيرها.
ذكرى «الكروت المعطّرة»
تناول الناشط الاجتماعي عبدالرحمن الكبيري، تغير العادات الرمضانية بين الماضي والحاضر، فبالعودة للتاريخ والأحداث ومتطلبات الأزمان كان الصيام شاقاً، ويحرص الجميع على اللقاء ليلاً وقضاء حوائجهم بأنفسهم، ثم حدث منعطف الإعلام والكهرباء فتقوقع الناس في بيوتهم، وعاد الإعلام بثوب مغرٍ لا يسمح بالخروج، وظهرت الفجوة أكثر، وزادت غربة أجواء رمضان إلا من الذكريات ورسائل التهنئة؛ وهي في الحقيقة لغة العصر.. «أدركت أيام المراسلات وصور وكروت المراسلات المعطّرة وكانت شاقة ومكلفة، والآن بكبسة زر حلوة وسهلة لكنها أذهبت فرحة اللقاء، فقد تقابل شخصاً بعد فراق بعيد وقد كنت تراسله يومياً فلا تجد للقاء فرحة ولا للفرقة وحشة فهل هذه ميزة أم نقمة؟».
كثيرة ومزعجة !
الباحث التاريخي عبدالرحمن سليمان النزاوي، يقول: لم نعرف تهاني رمضان إلا من خلال تقصّي حوائج الأقارب والجيران، أما التهاني فمقامها بالقرابة والسن فأصبح التواصل الاجتماعي من الأعراف.
أما الناشطة الاجتماعية أمل الملحم، فقد أكدت أن رسائل التهنئة في الجوال خلال رمضان تتيح التواصل مع الأصدقاء والعائلة بسهولة، ما يعزز الروابط الاجتماعية.. «اختلف الوضع عن السابق في التهنئة بسبب تباعد المسافات»، في الماضي كان الناس قريبين من بعض والزيارات سهلة، ومع التباعد الحالي أضحت الرسائل هي الوسيلة الأفضل ويمكن تخصيص الرسائل بأسلوب خاص، مثل استخدام اقتباسات دينية أو عبارات مؤثرة، ومع ذلك هناك عدد من السلبيات لهذه الرسائل؛ منها أن كثرتها تجلب الانزعاج والضيق وقد يؤدي الإفراط في الرسائل إلى الشعور بالإرهاق.
خطوات لإحياء الروابط المفقودة
رئيس نادي تاريخ المدينة المنورة عدنان عيسى الحربي، يأمل عودة إحياء الترابط الاجتماعي في رمضان، باتباع بعض الخطوات التي تشجع على التواصل والتفاعل بين الأفراد والعائلات، مثل تنظيم سفر الإفطار الجماعية ودعوة الأصدقاء والعائلة للإفطار، الأمر الذي يعزز الروابط ويشجع على تبادل الأحاديث والذكريات، ومهم جداً تفعيل الزيارات العائلية وتخصيص أوقات لزيارة الأهل والأقارب، خصوصاً كبار السن لتعزيز العلاقات، ومن المقترحات تفعيل الأنشطة المشتركة مثل تنظيم الألعاب الثقافية أو الرياضية، أو ورش العمل المشتركة، ما يساعد على تعزيز التعاون وروح الفريق، وكذا تعزيز الأعمال التطوعية والمشاركة في الأعمال الخيرية، مثل توزيع الطعام على المحتاجين، ما يعزز من الشعور بالانتماء والمشاركة.
ويرى الحربي، أن استخدام وسائل التواصل الاجتماعي بحكمة واعتدال وتنظيم لقاءات افتراضية لأفراد العائلة الذين لا يمكنهم الحضور شخصياً مناسب، والأنسب هو المحافظة على العادات والتقاليد التي كانت تُمارس في السابق في رمضان، مثل قراءة القرآن معاً، أو إقامة صلاة التراويح، وبتطبيق هذه الأفكار يمكن تعزيز الروابط الاجتماعية، وإعادة إحياء الأجواء الرمضانية المليئة بالمحبة والتواصل.
الصوم «ورا الزير»
ويقول -أحد سكان المدينة المنورة- فاير عايش الأحمدي: إن رمضان في المدينة المنورة، له طابع خاص وفريد، فهناك عادات وإرث تاريخي حافظ عليه أهلها، ففي الإفطار بالمسجد النبوي الشريف يتحول وقت الإفطار إلى طابع عائلي ولقاء بكثير من الجنسيات من مختلف دول العالم، وكثيراً ما نلتقي سنوياً في رمضان بالمسجد النبوي الشريف في نفس المكان المخصص لنا للإفطار، وهناك سُفر رمضانية تجاوز عمرها 50 عاماً وأصبحت تُتوارث لكسب الأجر في أجمل مكان.
أما سعد عيد الرحيلي -أحد سكان المدينة المنورة-، فيرى أن رمضان له طابع خاص، وتبدأ طقوسه منذ ليلة الإعلان وكان الجيران كأسرة واحدة، والأطفال يفرحون بقدوم الشهر، ويحرص الآباء على تعويد الصغار على الصيام من الصباح إلى الظهر، وعند العودة من المدرسة تتولى الأم تجهيز ما تبقى من طعام اليوم السابق للأطفال لتناوله «تصبيرة» حتى يأتي وقت المغرب.
ويضيف الرحيلي: كنا كأطفال نتجمع أمام البيوت، ونترك الأمهات يحضّرن طعام الإفطار دون إزعاج، وكان يدور بيننا السؤال الدارج «انت صايم من قدام الزير ولا من ورا الزير؟» فإذا كان الجواب «من قدام الزير»، يطلب الذي طرح السؤال من المجيب أن يخرج لسانه، فإذا رأى لونه أبيض من قلّة الطعام يتأكّد من صدقه، أما إذا كان لون اللسان أحمر فيُقال له «انت صايم من ورا الزير»!
وبعد ذلك ننشد وبكل براءة: «يا فاطر رمضان يا خاسر دينك.. الكلب السعران يقطع مصارينك».
«طُعمَة» الجيران
محمد الجهني -أحد سكان المدينة المنورة- يحكي سيرة الماضي، كنا ننتظر بفارغ الصبر مدفع رمضان، وكنا ننتظره فوق أسطح المنازل، وكان الصوت يصدح من فوق «جبل سلع» من تلك القلاع التي ما زالت موجودة شاهدة على ذلك الزمن.. كنا نصلى بعد الإفطار في المسجد ثم نتجمع بعد الإفطار لممارسة الألعاب البسيطة التي نصنعها بأنفسنا مثل الطراطيع و«سلك النحاس» والمراجيح الخشبية «المداد».
فيما كنّ نساء الحارة يتبادلن الزيارات، ويتسابقن في العطايا والهِبَات ويتبادلن الأطعمة والمأكولات، وتُسَمَّى بينهن «الطُعمَة».. فتجد ربة البيت قد أعدت صنفاً واحداً من الطعام، وإذا بالمائدة عند موعد الإفطار عليها عدة أصناف من المأكولات.. إنها «طُعمَة» من الجيران. كانت الأم إذ طرأ عليها أثناء طبخها ما يشغلها عند إعداد الطعام فإنها لا تجد حَرَجاً إطلاقاً في إرسال مرسولها لتطلب جبر هذا النقص من جاراتها..
https://www.okaz.com.sa/