رسم الحدود برشاقة الدبلوماسية السعودية

يعد ترسيم الحدود أمراً بالغ الأهمية للدول لحفظ سيادتها ورعاية مواطنيها، ويزداد الأمر أهمية وتعقيداً إذا ما وجدت الخيرات الطبيعية، وهو ما ينطبق على حوض المتوسط خاصة مع اكتشافات العام ٢٠١٠، وقد سال اللعاب الغربي تحديداً مع العام ٢٠٢٢ والبحث الأوروبي الجاد عن مصادر بديلة للغاز الروسي.
ويتكوّن حوض شرق المتوسط الكبير من ثلاث مناطق فرعية بحسب كتاب جيوبوليتيك البحر المتوسط الصادر من مركز دراسات الوحدة العربية، وهي: حوض بحر إيجه، قبالة سواحل تركيا واليونان وقبرص، وحوض دلتا النيل، قبالة سواحل مصر، والذي يمتد شمالاً حتى سواحل قبرص، وأخيراً حوض المشرق، قبالة سواحل سورية ولبنان و«إسرائيل» وهو ما يعنينا في هذا المقال.
ولبنانياً تأخر لبنان كثيراً في ترسيم حدوده مع إسرائيل وقبرص لصعوبة تسويق هذا المنتج على جمهور المقاومة، رغم جولات المفاوضات على مدار السنين، حتى عاد أموس هوكشتاين، الذي مثّل الجانب الأمريكي في المفاوضات خلال العالم ٢٠١٣ ولم يحالفه التوفيق.
ونجح في ٢٧ أكتوبر ٢٠٢٢ بإتمام اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين إسرائيل ولبنان، ولبنانياً ما أنضح الحل كانت الأزمة الاقتصادية التي تفاقمت منذ ثورة ٢٠١٩ وتبخر أرصدة المودعين من المصارف اللبنانية، وبالطبع كارثة تفجير مرفأ بيروت.
الاتفاق تم إثر قبول لبنان بالخط 23 بدلاً من الخط 29 خلال المفاوضات. حيث كان الخط 29 ليتيح للبنان الحصول على قسم من حقل كاريش الذي تسعى إسرائيل إلى استخراج المواد الهيدروكربونية منه. ويُشار في هذا الصدد إلى أن الشركة الفرنسية «توتال» هي التي ستتولى عملية التنقيب واستخراج الغاز في حقل قانا، وهذا ما يفسّر المقاربة الفرنسية قبل الحرب الأخيرة ومساعي كسب ود حزب الله.
وعلى عكس المتوقع كان ترسيم الحدود اللبنانية الإسرائيلية أصعب عملياً من ترسيم الحدود اللبنانية السورية، وذلك لسبب بسيط وهو أن نظام حافظ الأسد اعتبر بيروت حديقته الخلفية وليست دولة ذات سيادة، خاصة بعد سقوط هضبة الجولان بيد إسرائيل والاتفاق معها في ١٩٧٤، ثم الدخول في أتون الحرب الأهلية اللبنانية في ١٩٧٥.
ولنا أن نتخيّل على سبيل المثال أن لبنان الكبير الذي تشكّل بعد الانتداب الفرنسي في العام ١٩٢٠ لم يتم التوافق بعده على سفارة سورية في بيروت إلا في ١٣ أغسطس ٢٠٠٨ بعد قمة الرئيسين بشار الأسد وميشال سليمان، وكان شعار الأسد الأب التليد لقضم لبنان «تلازم المسار».
اليوم يشهد لبنان وسوريا على نحو سواء تحديات كبيرة على مستوى العبور من نفق الماضي، كما يشهدان تحديات من أصحاب المصالح في التهريب والكبتاجون والتي تعد المعابر غير الشرعية الأكسجين الذي يتنفسون منه، ومن أطراف إقليمية يغضبها أن تصبح الدولتان دولتين وطنيتين لا تقومان على أسس إثنية أو طائفية.
كما يشير المنظر الأمريكي نيكولاس سبيكمان أن «الجغرافيا لا تجادل، فهي ما هي عليه، فهي العامل الأكثر أهميّة في السياسة الخارجيّة للدول، لأنّها أكثر ديمومة، وحتى الطّغاة يموتون، لكنّ السلاسل الجبلية تبقى».
من هنا تأتي أهمية خطوة السعودية كصانعة الاستقرار في المنطقة، عبر جمع وزيرَي دفاع البلدين في جدة، بحضور وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، حيث وقّع وزير الدفاع اللبناني ميشال منسّى ونظيره السوري مرهف أبو قصرة اتفاقاً أكدا فيه على الأهمية الإستراتيجية لترسيم الحدود بين البلدين، وتشكيل لجان قانونية متخصصة بينهما في عدد من المجالات، وتفعيل آليات التنسيق بين الجانبين للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية وبخاصة فيما قد يطرأ على الحدود بينهما.
دبلوماسية الرياض الرشيقة والبعيدة عن الضوضاء لابد أنها تذكّر اللبنانيين باتفاق الطائف، الذي أقر معارضوه قبل مؤيديه أنه الحصن الذي منع انزلاق لبنان في حرب أهلية بالرغم من كل التهديدات في السنوات الماضية، ويأتي الإعلان عن الاتفاق على عقد اجتماع متابعة في السعودية في الفترة المقبلة، على إصرار الرياض على أخذ هذا المسار للنهاية.
إطلاق رصاصة سهل جداً لإشعال نزاع على الحدود السورية واللبنانية، أو في السودان، ولكن المهارة الأصعب هي إطلاق حبر الاتفاقيات التي تحفظ مقدرات اليوم والأجيال القادمة، وتمثّل نموذجاً مختلفاً يطرح التنمية كخيار تقدّمي في المنطقة.
https://www.okaz.com.sa/