«شارع الأعشى».. حين تكتب الدراما واقعها بأحبار الماضي

«شارع الأعشى»، ليس مجرد عمل درامي يُضاف إلى قائمة الإنتاج السعودي، بل هو تجربة متكاملة نجحت في إعادة بناء زمنٍ ماضٍ بعيون الحاضر، مستحضرة تفاصيل المكان والإنسان بروح سردية دقيقة. لا يتعلق الأمر بالحنين فحسب، بل بتوثيق درامي يختزل ملامح الحياة الاجتماعية بتقاطعاتها المختلفة، ويعيد تقديمها بمنطق درامي متماسك، بعيداً عن التكلف أو الاصطناع.

الكاتبة بدرية البشر، لم تقدم نصاً تقليدياً، بل أبدعت في رسم شخصيات متشابكة تتجاوز سطحية الدراما الخطية، إذ تتداخل المصائر وتتشابك الرغبات وتُعاد صياغة مفهوم البطولة بعيداً عن النمطية. كانت الكتابة هنا أكثر من مجرد استدعاء زمني، بل محاولة لقراءة التحولات التي شكلت الوعي الاجتماعي عبر العقود، في نص يحمل جرأة الطرح وعمق المعالجة.

على المستوى الإخراجي، استطاع العمل أن يخلق بيئة بصرية غنية، إذ تجسدت الأزقة القديمة، ومنازل الطين، واللهجة الحجازية الصافية، في توليفة سينمائية أقرب إلى روح الرواية منها إلى نمط المسلسلات التقليدية. كان التصوير، والإضاءة، والموسيقى عناصر متكاملة لم تأتِ كإكسسوارات بصرية، بل كأدوات فاعلة في نقل الشعور وتكثيف المعنى.

إحدى أبرز نقاط قوة المسلسل تكمن في منح وجوه شابة مساحة حقيقية للحضور، بعيداً عن المجاملات المعتادة. قدم هؤلاء الفنانون شخصياتهم بإحساس داخلي عميق، بعيداً عن الأداء الاستعراضي، مما جعلهم محط اهتمام الجمهور، بل وتحولوا إلى موضوع رئيسي للنقاش على منصات التواصل، إذ لم تقتصر المتابعة على المشاهدة، بل امتدت إلى تحليل الشخصيات وتفكيك مواقفها وكأنها جزء من واقع معاش.

لكن وسط هذا النجاح، برزت المقارنات التي لم تخلُ من الجدل، خصوصاً بين أداء إلهام علي في دور «وضحى»، التي أتقنت اللهجة والحركة الجسدية بانسيابية، وريم عبدالله التي قدمت شخصية مختلفة تماماً في مسلسل آخر، ليصبح التنافس الجماهيري بين العملين انعكاساً للحالة الدرامية الجديدة في السعودية.

ما صنعه «شارع الأعشى»، ليس مجرد تفاعل لحظي، بل نقلة نوعية في بنية الدراما المحلية، التي أثبتت أنها قادرة على استنطاق الذاكرة واستدعاء الحكاية بشكل فني راقٍ، يمزج بين التوثيق والسرد دون الوقوع في فخ الاجترار أو التقليد. هو عمل لا يبحث عن الصخب الإعلامي، بل عن التأثير العميق، إذ تصبح الشخصيات والأحداث جزءاً من ذاكرة المشاهد، لا مجرد محطات عابرة في موسم رمضاني مزدحم.

​https://www.okaz.com.sa/

Exit mobile version