
تحقيق- التاج عثمان ـ
كنت دائما آخر الخارجين من بعض مناطق القتال بالخرطوم او سنجة او الدندر متعمدا حتى اقف ميدانيا على جرائم المليشيا التي ترتكبها عند دخولها وسيطرتها على إحدى المدن.. في العاصمة وعقب فض الإعتصام أي قبل إندلاع القتال بين الجيش والمليشيا المتمردة كنت وبالصدفة شاهد عيان على مقبرة جماعية بإحدى مدافن الخرطوم.. وبعدها وعند بدايات القتال ظللت لفترة طويلة بالمنزل ببحري بعد ان أجليت الأسرة لإحدى مناطق شرق النيل وفي الطريق شاهدت مئات الجثث لمواطنين لقوا مصرعهم على يد المليشيا ملقاة على الطرقات وبعضها بدأ في التحلل.. ونفس المشهد تكرر اثناء تواجدي القهري بمدينة سنجة عاصمة ولاية سنار لحوالي شهر ونصف بعد سيطرة المليشيا عليها في 29 يونيو 2024..
حدث بمقابر فاروق:
في بداية الحرب بحوالي إسبوع إتصل بي أحد مصادري بالديم بالخرطوم طالبا مني الحضور سريعا لمنزله لأمر جلل كما وصفه، مشيرا انه لا يستطيع البوح بتفاصيله على الهاتف.. فضولي الصحفي دفعني التوجه سريعا لمصدري وصديقي بمنزله بالديوم الغربية، وهناك فاجأني أنه يشك في وجود مقبرة جماعية بمقابر فاروق المتاخمة للديم من الناحية الشمالية، مشيرا انه قبل يوم شارك في تشييع أحد مواطني الديم فلفت إنتباهه عدة قبور متجاورة وما أثار إستغرابه أن التراب الذي غطت به القبور لم يستخرج من حفر القبور بل عبارة عن مخلفات بناء، تراب مخلوط بالأسمنت والطوب وبعض الأنقاض الصغيرة والأوساخ.. وعلى الفور توجهت معه لمقابر فاروق دخلناها عبر بوابتها الصغيرة الشرقية والتي تطل مباشرة على شارع العمارات.. وما ان إجتزنا بوابة المقابر ومن دون ان يشير مرافقي على القبور الجماعية المشبوهه أشرت بيدي لأكوام من التراب الخاص بأنقاض ومخلفات البناء ويبدو من هيئته انه تم جلبه من خارج المقابر وقلت لمرافقي: أليست هذه المقابر الجماعية المشبوهة التي تقصدها؟، أجاب بالإيجاب: أجل هي القبور التي أقصدها,
مقابر فاروق:
القبور كانت موجودة في الركن الجنوبي الشرقي من مقابر فاروق لا يفصلها عن السور الشرقي والبوابة الشرقية سوى أمتار قليلة، أحصيت عددها فوجدتها 25 قبرا في بقعة واحدة كل قبر قائم بذاته لكن طريقة وإسلوب الدفن واكوام مواد البناء فوق القبور ينم انه قبر جماعي في حفرة واحدة وبعد طمرها بمخلفات البناء تم تجميع وتوزيع التراب المخلوط بالحجارة الأسمنتية والطوب فوقها بحيث تبدو وكأنها قبور كثيرة، وهناك قبور أخرى مغطاة بمخلفات البناء بأجزاء أخرى من المقابر.. نوع التراب الذي يغطى القبور المشبوهة يوضح ان الدفن تم على عجل وليس بالصورة الصحيحة، فتراب ومخلفات البناء لم تكن مستوية أعلى القبور بل موزعة بطريقة عشوائية غير منتظمة.. وما أثبت لي ان التراب ومخلفات البناء تم جلبها من خارج المقابر أنني تتبعت الطريق الذي يقود لتلك القبور من البوابة الشرقية وحتى موقع دفن الجثامين فلاحظت أمرا غريبا، عبارة عن آثار لمخلفات بناء وأحجار صغيرة متناثرة على أرض المقابر من بوابتها الشرقية وحتى موقع القبور، ذلك يرجح فرضية أن التراب لم يستخرج من القبور او القبر الجماعي بعد حفره بل تم جلبها من الخارج, وسألت حينها الغفير المسؤول من المقابر وذكر أن هذه المقابر تخص أشخاص مجهولي الهوية, وصلت هذه الجثامين في اسعافات خاصة بالدعم السريع .
جثمان حبيس مسجد:
حادثة أخرى كنت شاهد عيان عليها أيضا، ففي أول أيام الحرب كنت بحي المزاد ببحري وكان هناك تدوين عنيف قادم من شرق النيل، أصابت قذيفة جارنا وصديقنا أسامه وقيع الله حيث سقطت القذيفة على باب المنزل الخارجي واطاحت بها لتصل للفرندة حيث كان المرحوم يهم وقتها بإغلاق الباب إلا ان القذيفة أطاحت به وإخترقت جسمه وتوفى في الحال.. هرعنا للمنزل وحاولنا إسعافه إلا أنه توفى في الحال.. وبعد ان تم غسل الجثمان تعذر علينا دفنه بمقابر شمبات القريبة من حي المزاد لإشتداد القصف، فإضطررنا الخروج من المنزل ومعنا الجثمان لنختبئ داخل مسجد صغير قرب المنزل عبارة عن بدروم تحت الأرض.. ولم نستطع التحرك بالجثمان لدفنه بالمقابر حتى قبل المغرب بقليل، وكنا على وشك دفنه داخل المنزل، لكن في نهاية الامر توكلنا على الله وحملنا الجثمان وكنا خمسة أشخاص فقط وتبرع أحد الجيران بترحيلنا مع الجثمان إلى مقابر شمبات رغم انها كانت مجازفة بأرواحنا لإنهمار القذائف والذخيرة فوق رؤوسنا.. عموما نجحنا أخيرا في الوصول للمقابر وسترنا جارنا أسامه رحمه الله.
مقبرة مرابيع الشريف:
من المشاهد التي لن أنساها ما حدث تجاه كبري مرابيع الشريف بطريق العيلفون أول أيام الحرب.. حيث تعرضت قوة من الجيش كانت قادمة للعاصمة من إحدى الولايات لكمين أسفل الكبرى وحدث تبادل للنيران بين افراد الجيش والدعم السريع راح ضحيته عدد كبير من افراد المليشيا وشاهدت جثثهم تتناثر على شارع العيلفون الأسفلتيى وأسفل كبري مرابيع الشريف، وبعد إنجلاء تلك المعركة لم يجد سكان مرابيع الشريف طريقة لدفن جثث المليشيا إلا بحفر قبر جماعي طولي بمحازاة شارع العيلفون من الناحية الغربية.. ولا تزال القبور الجماعية موجودة حسب ما نقله لي البعض.
مقبرة شارع الإنقاذ:
أيضا رصدت قبل مغادرتي الخرطوم تناثر كبير لجثث المليشيا على طول شارع الشهيد مطر ــ الإنقاذ سابقا ــ وحاول بعض سكان المنطقة سترها بالصحف والكراتين وظلت في العراء لأكثر من 5 أيام مما إضطر سكان المنطقة لدفنها في مقبرة جماعية بأحد الميادين المطلة على الطريق الرئيسي حماية لأنفسهم من خطرها بعد تعفنها.
قبور موقف شندي:
ايضا شاهدت مئات الجثث لمواطنين ملقاة بموقف مواصلات شندي بشمبات قرب السوق المركزي بحري، ولقد حاول سكان شمبات نقل الجثامين ودفنها بمقابر شمبات لكن أفراد المليشيا أطلقت وابل من الرصاص تجاه المشيعين فإضطروا العودة بالجثامين ودفنها بموقف شندي وداخل ميادين حي شمبات.. وهناك مئات الجثث تم دفنها بهذه الطريقة خارج المقابر وداخل الأحياء بالميادين، وبعض المواطنين لم يجدوا طريقة إلا دفن قتلاهم من ضحايا المليشيا داخل المنازل.
(نواصل)