العالم الصلب تسيل قواه.. والمستقبل سؤال كبير !
![](/wp-content/uploads/2025/02/no-image-VGzABN-780x470.png)
كانت لدى الرئيس الفرنسي الكبير شارل ديغول طريقته الخاصة في النظر إلى شؤون العالم، والتعامل مع التحديات التي تواجهها بلاده. حين يواجه وضعاً يستدعي التفكير والتقدير، كان يطلب من مساعديه الخريطة ويبسطها أمامه، متأملاً حدود الدول، مقدّراً أوزانها، قارئاً من خلالها حركة العالم السياسية، فالجغرافيا جزء من السياسة، ومحرك كبير لها، ومن خلالها.
ومع الوقت أصبحت الجغرافيا السياسية واحدة من أهم العلوم التي يتدارسها الباحثون في مجال العلاقات الدولية والأمن القومي، كونها تعطي رسائل عن شكل المستقبل، وكيفية التعامل معه. بل وتفرض تحديات لا بد من مواجهاتها، وتحالفات لا بد من تعميقها. إن استيلاء روسيا على شبه جزيرة القرم، والمطالب الصينية المتعاقبة على سواحلها، وعدد من المشاهد الأخرى في أفريقيا هي الدليل على عودة المنافسات الجيوسياسية لمركز الصدارة في العلاقات الدولية.
وبهذا المنطق الديغولي يمكنك تفسير ثلاثة من أهم عناصر عدم الاستقرار في المستقبل المنظور بين آسيا وأوروبا وأفريقيا. إنها رحلة سريعة في عالم السياسة اليوم، المحفوف بالقوى المتصارعة. ولقد رأيتها ماثلة في المأزق الروسي في الشرق الأوسط والبحر المتوسط، والانحباس الصيني في المياه الزرقاء، والغضب المكبوت الإثيوبي من كونها دولة كبرى بلا بحر ولا مرافئ.
وبالنظر إلى الخريطة يمكن فهم الإصرار الروسي على الحصول على موطئ قدم في سوريا، وهو تواجد وجودي يستلزم منها المحاربة بالأظافر والأنياب للبقاء في الساحل الذي ألفته منذ عقود. والنظر إلى خريطة أفريقيا يخبرك عن المأزق الأفريقي المعقد، حيث تُرى إثيوبيا وكأنه فيل محاصر من قبل نملة. وإلى الشرق هناك تلمح الصين المخنوقة سواحلها بحلفاء الغرب والكومنولث.
كان السقوط المدوي للرئيس السوري بشار الأسد حدثاً استراتيجياً مهماً في المنطقة، فهو يعني نهاية مشروع صبغ المنطقة بلونه المعتم لأكثر من عقد. كما أنه صدى مكتوم لما حدث في أوكرانيا والقلق الذي يعتري حلف النيتو من نجاح بوتين في الحصول على مبتغاه من غزو أوكرانيا، ثم تبدو أوروبا عارية وحيدة في مواجهة الخطر القادم من الشرق.
وهكذا يمكن لكثيرين في المنطقة تنفس الصعداء، وهم يرون تضعضع النفوذ الروسي في سوريا، وهو ما قد يعني خروجاً من البحر المتوسط، وغياباً عن المنصة البحرية الأهم التي تربطه مع أوروبا. صوت الهزيمة هذه صوت سوف يصل صداه إلى بنغازي، التي هي مظلة مهمة على البحر المتوسط، ولروسيا حلفاء هناك، وإلى السودان الذي هو جزء من معركة البحار، ولروسيا حلفاء هناك أيضاً. إنها هزيمة أكبر من الاحتمال بالنسبة لدولة عظمى تشعر أنها محاصرة بالغرب وحلفائه على حدودها.
تمتلك روسيا قاعدة بحرية رئيسية في طرطوس، سوريا، وهي القاعدة البحرية الوحيدة لها في البحر المتوسط، مما يمنحها قدرة على نشر قواتها وتأمين مصالحها في المنطقة. كما أن البحر المتوسط يعد معبراً رئيسياً لصادرات النفط والغاز الروسي، خاصة نحو أوروبا، كما تسعى روسيا لتعزيز نفوذها في مشاريع الطاقة في دول مثل ليبيا ومصر.
ومعروف أن البحر المتوسط يشكّل ساحة تنافس مع القوى الغربية (مثل الولايات المتحدة وحلف النيتو)، وتسعى روسيا لتعزيز تحالفاتها مع دول المنطقة مثل سوريا، مصر، والجزائر لتحقيق توازن استراتيجي. ولا ننسى أيضاً أن البحر المتوسط يربط بين البحر الأسود والمحيط الأطلسي عبر مضيق البوسفور وقناة السويس، مما يجعله ممراً حيوياً للتجارة الروسية مع أوروبا وأفريقيا والشرق الأوسط.
بالتالي، يمثل البحر المتوسط نقطة استراتيجية حيوية لروسيا لتعزيز نفوذها العسكري، وتأمين مصالحها الاقتصادية، وموازنة القوى في مواجهة الغرب.
وبالنظر إلى مأزق الخريطة فإنك ترى إثيوبيا التي تُعد من الدول الكبيرة في أفريقيا من حيث عدد السكان (حوالي 120 مليون نسمة) والمساحة، ومع ذلك، فإن قوتها العسكرية والسياسية تواجه تحديات كبيرة وأهمها البحر. فهي دولة غير ساحلية (حبيسة) وليس لديها أي حدود بحرية، نظراً لأنها فقدت منفذها البحري بعد استقلال إريتريا عام 1993، التي كانت في السابق جزءاً منها.
حاليا تعتمد إثيوبيا على موانئ جيبوتي بشكل رئيسي للوصول إلى البحر، حيث تمر أكثر من 95% من تجارتها الخارجية عبر ميناء جيبوتي. وتسعى إثيوبيا إلى تأمين منفذ بحري خاص بها، وقد أجرت مفاوضات مع إريتريا، الصومال، وجيبوتي لاستئجار أو امتلاك جزء من الموانئ.
من غير المرجح أن تلجأ إثيوبيا إلى استخدام القوة العسكرية للحصول على منفذ بحري، لكنها قد تمارس ضغوطاً سياسية واقتصادية لتحقيق هذا الهدف. إثيوبيا تعتمد على ميناء جيبوتي لأكثر من 95% من تجارتها، مما يجعلها في وضع غير مريح اقتصادياً. ومن ناحية أخرى ترغب في التوسع الجيوسياسي فهي تمتلك جيشاً كبيراً، وقد ترغب في استعادة نفوذها الإقليمي، خاصة بعد فقدانها للبحر عند استقلال إريتريا عام 1993..
وبين الصورة والظلال يتبقى أن آسيا هي العقدة الأصعب، وتكاد أن تكون سؤال التاريخ ككل، فبينما تكاد عناصر قوتها أن تبلغ طور الاكتمال، وتهدد النظام العالمي بشكله الحالي، إلا أن حلفاء الغرب في آسيا يحكمون تطويقها، ويجعلونها تفكر كثيراً قبل كل خطوة. ويلعب حلفاء بريطانيا والغرب دورهم المهم في هذا التضييق والاحتواء للطموح الصيني.
بعض دول الكومنولث القريبة من آسيا، مثل أستراليا ونيوزيلندا، لديها خلافات مع الصين، لكن طبيعة هذه الخلافات تختلف من دولة لأخرى. فقد فرضت الصين تعريفات جمركية على صادرات أستراليا (مثل الشعير والفحم) بعد مطالبة أستراليا بتحقيق دولي حول منشأ فيروس كورونا. وانتقدت أستراليا سياسات الصين في هونغ كونغ وشينجيانغ، مما أثار غضب بكين. والأهم أن أستراليا وقعت اتفاقية AUKUS مع الولايات المتحدة وبريطانيا لتطوير غواصات نووية، وهو ما اعتبرته الصين تهديداً مباشراً لنفوذها في المحيطين الهندي والهادئ.
وعلى الضفة الأخرى نرى أن نيوزيلندا أقل تصادمية من أستراليا لكنها أعربت عن قلقها بشأن حقوق الإنسان في الصين تحافظ على علاقات اقتصادية قوية مع الصين، مما يجعلها أكثر توازناً في موقفها مقارنة بأستراليا. لكن حين تحين لحظة الحقيقة فإنها بلا شك سوف تميل إلى تاريخها وتحالفاتها الغربية المهمة. كذلك نرى «جزر سليمان» وهي طرف في سلسلة المعادلات المعقدة، وأداة مهمة في صراع المستقبل.
وفي ختام هذه الرحلة نرى الآن أن القيادة العالمية الأمريكية أصبحت موضع تساؤل وشكوك، ولربما أنها كانت حالة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات الدولية، وهي أن القوى الصلبة التي كانت تحكم العالم في إطارها المحدد بدأت تخرج عن المدار، وحالة السيولة التي يمر بها العالم تنذر بالتقلب، وبمزيد من حالات الصراع، خصوصاً أن التململ الصيني والروسي من النظام العالمي الحالي بدأ يظهر للعلن متمثلاً بتمددات عسكرية، وتصريحات متشنجة. كما أن مشاركة قوات كوريا الشمالية في تحالف مع الروس في الحرب الأوكرانية يحمل دلالات مثيرة للقلق، فهي المرة الأولى منذ أكثر من عقدين التي ترسل فيها كوريا الشمالية قوات خارج حدودها.
وعادة ما تكون هذه التحولات مقدمة لتسوية استراتيجية كبرى، أو حرب تنهي مسيرة الدبلوماسية الناعمة، وتضع النقاط على الحروف، وفقاً للواقع السياسي الجديد. العالم الآن أمام تسوية كبرى على غرار ويستفاليا، التي حمت أوروبا من سنوات من الدم والدموع، أو حرب عالمية جديدة تخط حدوداً جديدة للقوى العالمية المتصارعة.
https://www.okaz.com.sa/