أخبار الخليج

بيان المملكة.. الصوت المسموع والرأي المقدر..!

«الذكاء والحزم» سمتان تميّز بهما بيان المملكة العربية السعودية، الصادر عن وزارة الخارجية، حيال التصريحات بشأن تهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، واقتراح مهاجر له؛ إما بالتصريح الفجّ حينًا، أو بالإشارة غمزًا وإيماءً، في مشهد لا واصف له إلا «العنجهية» في أقصى تجلياتها، و«الغطرسة» في أوضح صورها، و«التطرف» في أقبح مسلاخه..

وجه الذكاء في هذا البيان، محمول على عدة وجوه، أوّلها أنه تبطّن رسالة تتجاوز «نتنياهو» وسلطته المحتلة، لتصل إلى سمع الجالس على كرسي البيت الأبيض، وقد بلغت به الجرأة والغطرسة مبلغًا أن «يشتري» علنًا ما ليس «للبيع»، ويحدّد ويقسّم ويوزّع «الضفة»، ويستثمر فيها كيفما عنّ له خياله، وتراءت له مخاييل سطوته.. «مفترضًا» بكل ثقة أن الأمر قيد القبول الحتمي، والرضا به طوعًا أو كرهًا، مضمرًا التهديد المبطن حينًا، والإيحاء بالعقوبات لفرض أمره بسلطان القهر حينًا آخر، معطيًا بهذا الموقف لسان الجرأة لـ«ربيبه» نتنياهو، العائد لتوّه من البيت الأبيض، بزهو الحاصل على مبتغاه من السيطرة على قطاع غزة، بإذن التطهير العرقي للشعب الفلسطيني من أرضه.. فكان البيان السعودي البالج بالوضوح «سوط» ردع، ورسالة حزم، لا شك سيتردد دوّيها في البيت الأبيض، وتبلغ معانيها «ترامب»، ليدرك الموقف المؤكّد والثابت للمملكة العربية السعودية، في كل الحقب والعهود، وفي هذا العهد على وجه الخصوص، فكم من مناسبة ظل فيها صوت ولي العهد جهيرًا بالتأكيد على مركزية القضية الفلسطينية لدى الدول العربية والإسلامية، وفي أعلى سنامهما ومقدمتهما المملكة، فهو ذات الموقف النبيل الذي عبر عنه سموه في افتتاح أعمال السنة الأولى من الدورة التاسعة لمجلس الشورى بتاريخ 18 سبتمبر 2024م، حين شدّد على أن المملكة لن تتوقف عن عملها الدؤوب في سبيل قيام دولة فلسطينية مستقلة وعاصمتها القدس الشرقية، وأن المملكة لن تقيم علاقات دبلوماسية مع إسرائيل دون ذلك، وهو ذات الموقف الراسخ لسموه في القمة العربية الإسلامية غير العادية بالرياض في 11 نوفمبر 2024م، وغيرها من المواقف الثابتة والأكيدة، والتي لا لبس فيها ولا غموض، ولا تزيّد.

ويتجلّى وجه الذكاء في البيان أنه بقدر ما راعى عمق العلاقة التاريخية والاستراتيجية بين المملكة والولايات المتحدة، وأنها قائمة على قواعد راسخة، ومعطيات لا يمكن القفز عليها، أيضًا أكد على ما لا محيد عنه من الثوابت التي لا تحتمل الوخز، ولا تطال بالانتياش، عند من يغيب عنهم الوعي بهذا العمق، والإدراك لماهية هذه العلاقة، فمن لا يرى في الأراضي الفلسطينية غير أنها «قطعة أرض» صالحة للاستثمار؛ من «السهل» تهجير أهلها، ومن «الممكن» طمس هويتها، ومن «الجائز» محو تاريخها، لم يترك لك من خيار غير أن تضعه والمحتل في خانة واحدة، وتوصيف مماثل، فكلاهما يبث ما يقول من محطة إرسال واحدة، أحسن بيان المملكة توصيفها في سياق قوله هذه العقلية المتطرفة المحتلة لا تستوعب ما تعنيه الأرض الفلسطينية لشعب فلسطين الشقيق، وارتباطه الوجداني والتاريخي والقانوني بهذه الأرض، ولا تنظر إلى أن الشعب الفلسطيني يستحق الحياة أساسًا فقد دمرت قطاع غزة بالكامل، وقتلت وأصابت ما يزيد على (160) ألفًا أكثرهم من الأطفال والنساء، دون أدنى شعور إنساني أو مسؤولية أخلاقية..

كذلك ثمة ملمح ذكي في لغة البيان تمثلت في مخاطبة «نتنياهو» باسمه مجردًا دون أي صفة تلحقه، بما يعني ضمنًا عدم الاعتراف بكيانه الغاصب المحتل، وسلطته المستعمرة، وتبعًا لذلك فليس هناك اعتراف بـ«رئيس وزراء للاحتلال الإسرائيلي»، وهي رسالة تعبر «نتن» إلى البيت الأبيض أيضًا، بتعبير واضح ناصع أن المملكة لا تنظر إلى «إسرائيل» إلا بوصفها كيانًا غاصبًا، فاقدًا للشرعية، غير قابل للتعاطي معه طالما بقي على هذه الصفة، ولم يذعن لحل الدولتين المتفق عليه، والمرحب به دوليًا..

أما وجه الحزم الباتر في هذا البيان فجاء محمولًا في طوايا ومظهر لغته، بتضمينه صراحة وإشارته بجلاء إلى الجرائم المتتالية التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي تجاه الأشقاء الفلسطينيين في غزة، بما في ذلك ما يتعرضون له من تطهير عرقي، واستنكاره لذلك، وتأكيده على «أن حق الشعب الفلسطيني الشقيق سيبقى راسخًا، ولن يستطيع أحد سلبه منه مهما طال الزمن، وأن السلام الدائم لن يتحقق إلا بالعودة إلى منطق العقل، والقبول بمبدأ التعايش السلمي من خلال حل الدولتين»، وأن المملكة ستقف بحزم لا يلين أمام أي محاولات للمساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة سواء من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلي أو ضم الأراضي الفلسطينية أو السعي لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه، وأن الكيان الإسرائيلي الغاصب والغاشم يرتكب خطأً كبيرًا إن زعم أنه بتدميره قطاع غزة وقتله عشرات الآلاف من نسائه وأطفاله وشيوخه وشبابه بإمكانه فك ارتباط الفلسطينيين بأرضهم، والتأكيد على أن الأجيال المُستقبلية لن تنسى ما خلّفته هذه الحرب العبثية، وأنه بإصرار الكيان المحتل على مصادمة حق الوجود الفلسطيني فلن ينجو من الغضب الكامن الذي سيدحرهم طال الزمن أو قصر.. وليس أكثر وضوحًا في هذا الجانب من تأكيد البيان أن المملكة ستقف بحزم لا يلين أمام أي محاولات للمساس بحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة سواء من خلال سياسات الاستيطان الإسرائيلي أو ضم الأراضي الفلسطينية أو السعي لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه..

صفوة القول وزبدته أن مواقف المملكة تجاه القضية الفلسطينية تصدر عن قناعات راسخة، ووعي بصير، غير مخدوش بالخطابات الديماجوجية، أو المفرقعات الدعائية، والهتافات الغوغائية، فلكل كلمة مثقالها في ميزان التوصيف، ودورها في مرجحة الدبلوماسية، ومقصدها النافذ في عالم السياسة، فلا غرو أن يجد بيان المملكة التعضيد والمساندة من الدول العربية والإسلامية، والمحبة للسلام، وترى فيها مرتكزها الأهم في مواجهة الصلف، برمزية ما تعنيه المملكة، والمكانة التي تحتلها، وصوتها المسموع، ورأيها المقدّر.

​https://www.okaz.com.sa/

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


زر الذهاب إلى الأعلى