أخبار السودان

إبراهيم شقلاوي يكتب.. المسيّرات : فوضى لن تستثني أحدًا​منصة السودان

متابعة – منصة السودان –

دعونا نقرأ المشهد من زاوية أخرى، بحسب ما حدث في التطور الخطير وغير المسبوق، الذي شهدته مدينة بورتسودان خلال الأيام الماضية؛ سلسلة هجمات بطائرات مسيّرة استراتيجية استهدفت مواقع عسكرية ومنشآت مدنية، من بينها المطار، ومستودعات الوقود، ونُزُل للبعثات الدبلوماسية والمنظمات الدولية، والقاعدة الجوية، والميناء. ما يعكس تحولًا نوعيًا في طبيعة الحرب السودانية الجارية منذ أكثر من عامين.

هذه الهجمات، التي قامت بها ميليشيا الدعم السريع، تُظهر بوضوح أن البلاد دخلت مرحلة جديدة من الصراع، تتداخل فيها التكنولوجيا، والسياسة، والاستخبارات، والتدخل الإقليمي، في مشهد معقد لا يمكن فهمه أو التعامل معه بمعزل عن السياق الأشمل للحرب. في هذا المقال نحاول مناقشة ذلك، بالنظر إلى أن المسيّرات سلاح غير متاح امتلاكه لغير الدول.

هذه التحولات تشير إلى وجود غرف عمليات متقدمة تدير المعركة عن بُعد، وتتحكم في أدواتها التقنية والتكتيكية، مما يعزز من فرضية وجود دعم لوجستي واستخباري خارجي يوفّر للميليشيا الوسائل والتقنيات، ويضمن لها القدرة على تنفيذ عمليات نوعية تتجاوز قدراتها الذاتية المفترضة. ذلك يُعرف بـ”حرب الظل بالوكالة”، التي تُستخدم فيها الميليشيا كوكيل عن آخرين لتنفيذ مشروع يستهدف إعادة ترتيب المشهد السوداني وفق رؤية جديدة، ظلت تتطور في تمظهراتها، مرورًا بمراحل متعددة، منذ ما قبل سقوط نظام البشير في عام 2019.

أكدت البيانات الرسمية من الحكومة السودانية، ووزارة الخارجية، والقيادة العسكرية ، أن الهجمات المسيّرة تمثّل “عدوانًا كاملًا” تقف وراءه دولة إقليمية. وهو ما دعمته إفادات الجيش بأن الطائرات كانت تُدار من خارج البلاد. هذا التصعيد يُحوّل الصراع في السودان إلى مواجهة إقليمية معقدة، تتداخل فيها الحسابات الجيوسياسية والمصالح العابرة للحدود، تستهدف الضغط على الجيش للذهاب إلى مفاوضات تقود إلى تسوية مفروضة، تُمكّن أطرافًا خارجية من التأثير على مفاصل الدولة.

يشكّل تزويد جهات غير حكومية بطائرات انتحارية متطورة تهديدًا يتجاوز السودان، ليطال أمن المنطقة بأكملها. إذ يُحوّل الأجواء الإقليمية إلى ساحة فوضى محتملة، واستهداف المنشآت المدنية مثل المطارات والموانئ يكشف عن نية لتعطيل الدولة، واستخفاف واضح بالقانون الدولي، الذي يحظر ضرب البنية التحتية المدنية. فالدولة التي تسمح لنفسها بتزويد فاعلين غير حكوميين بطائرات انتحارية متطورة، إنما تزرع أداة قابلة للانقلاب عليها.

ما حدث في بورتسودان لا يمكن عزله عن الإقليم، فالهجمات المسيّرة لم تكن فقط عدوانًا على السودان، بل كانت إنذارًا تجاوز حدود السودان إلى عواصم الجوار والمنطقة بأكملها. وهو ما انعكس في ردود الفعل الواسعة من السعودية، وقطر، والكويت، ومصر، وإيران، وتركيا، إضافة إلى الاتحاد الإفريقي، ومجلس التعاون الخليجي، والجامعة العربية؛ حيث عبّروا عن قلقهم من خطورة هذه التطورات، واتفقوا – رغم تباين مصالحهم – على رفض تحويل السودان إلى ساحة حرب بالوكالة تهدّد استقرار المنطقة والإقليم.

هذا الإجماع الإقليمي والدولي يعكس إدراكًا مشتركًا بأن استمرار الحرب، مع دخول أدوات غير تقليدية كالمسيّرات المدعومة خارجيًا، ينذر بخلق بيئة أمنية هشّة، لا تتأثر بها الخرطوم أو بورتسودان وحدهما، بل تمتد آثارها إلى البحر الأحمر، والقرن الإفريقي، بل وربما إلى أمن الملاحة العالمية والحدود السيادية لدول الجوار.

التجربة القاسية التي عاشتها بورتسودان خلال الأيام الماضية كشفت عن استجابة دفاعية متأخرة، وأظهرت أن الدفاع الجوي وحده لا يكفي إن لم يُسبقه عمل استخباري قادر على كشف الهجمات قبل وقوعها. فقد استطاع السودان، في مراحل سابقة وأزمات داخلية وخارجية مختلفة، عبر أدوات استخباراتية، أن يمنع كوارث حقيقية من خلال استباق الضربة وتفكيك الخطر، بالتنسيق مع أجهزة استخبارات في المنطقة. فالمعركة الآن لا تُكسب فقط في الجو، بل في العقول وغرف التحليل، وفي شبكات الرصد والمتابعة التي تعرف متى وأين وكيف تُحبط المخطط قبل اكتماله.

في هذا السياق، تبرز أهمية القراءة الكلية للأحداث؛ فما يحدث اليوم هو محاولة لهدم النظام السياسي والاجتماعي للدولة السودانية من الداخل، عبر ضرب مفاصلها الحيوية، وترويع سكانها، وإرباك إدارتها، وتحويلها إلى دولة فاشلة. من يتعامل مع هذا الحدث بوصفه مجرد “تصعيد عسكري”، يُفوّت عليه فهم المسار الحقيقي للحرب.

لا يمكن مواجهة التحديات الأمنية الجديدة إلا بعقل استراتيجي يفهم الترابط بين الظواهر ويستوعب تطورها؛ فخطر المسيّرات لا يقتصر على استخدامها ضد السودان، بل في غياب القراءات المجتزأة لها، خاصة أنها قد تصل إلى جماعات معارضة تهدد أمن الإقليم. لذا، من الضروري وجود ردع دولي، ورؤية متكاملة تُحصّن الدول من الداخل. فالمسيّرات التي أصبح الحصول عليها سهلًا لغير الحكومات، ربما تقع في أيدي جماعات إرهابية.

بحسب ما نراه من #وجه_الحقيقة، فإن أحداث بورتسودان تؤكد ضرورة التفكير في الأمن بمنهج شامل، يربط بين الأدوات والغايات والمصالح المشتركة، ويدرك أن تهديد المسيّرات عابر للحدود. ما جرى يعتبر بداية لنمط جديد من الحروب، يتطلب إعادة بناء مفاهيم الأمن القومي وأدوات الدولة. إن تجاهل هذا النوع الجديد من الحروب يفتح الباب أمام فوضى إقليمية محتملة، ربما لا تستثني أحدًا.
دمتم بخير وعافية.
الأربعاء 7 مايو 2025م [email protected].

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *



زر الذهاب إلى الأعلى