قصة

ملهاة البلاد الفظيعة

محمد فرح وهبي

“إنَّنا محكومون بالأمل، وما يحدث اليوم لا يمكن أن يكون نهاية التاريخ”.

أفتتح مقالتي بمقولة المسرحي السوري الراحل، سعد الله ونوس، لضرورتها العميقة لي، لروحي، قبل كل شيء. فالكتابة التي لا تمس الروح ليست كتابة، بل كلمات منبتَّة، وجمل منتزعة من سياقها، ولاشيء متعاظم. مثلما يحدث الآن، ليس في بلادنا على نحو حصري؛ إنَّما في العالم بأسره، كل شيء فقد معناه، ارتفعت الأسوار في حدود الدول، تعاظمت الأنانية، تنكر الإنسان لقيمه الرفيعة ولكونه إنسانًا، عاد القهقرى لاستعمار جديد قميء للغاية، وتحت مسميات رفيعة وأقنعة حاول جاهدًا إخفاء قبحه، ولكن هيهات. 
كان دونالد ترامب، أكبر فايروس للكراهية مجسدًا في إنسان، غزا العالم بثورته الخطأ، بمفاهيمه المسممة. وكالعادة، دائما نهض له أتباع كثر، صفقوا لحماقاته كلها ودعموها بالكامل. بالطبع، كل فايروس كراهية يحتاج دائمًا لخطاب تعميمي وآخرَ مقدس، لا ننسي المقدس، والذى بالنسبة لترامب؛ يتطابق – تمامًا – مع خطاب الطيب مصطفي، كلهم ولغ فيه بألسنتهم القذرة، وأرواحهم الميتة، وقلوبهم الفقيرة. ماذا كانت المحصلات؟ كراهية تعاظمت، وقلوب عميت، وإنسان نسي سيرته كإنسان، عاد “ظلًّا وقناعًا” لإنسان، كما يصف “أدونيس”.
إنَّ فايروس “كورونا”، هو – بالمناسبة – تتويج مضحك لعصر بطولات الخواء والبَلادة، العصر الذي افتتحه “ترامب” و”الطيب مصطفي”، والذى استمرا فيه كثيرًا؛ أكثر مما نتصور. شخص وقح مثل الطاغية المبجل والذى تضيق في حاله الأوصاف وتتضاءل الصفات، هذا المُحير الخطر الفتاك الضال والأبله بامتياز “عمر البشير”، ويا له من غبي كامل الدسم ومسمم بالكامل.

(2)

كنا قلة قليلة تعشق الشعر، الغناء، قعدات العود والشراب، حسب الطلب، البنيات اللطيفات العفيفات منبع الذوق والرهافة،والرائحة التي تبعث في نفسك الحياة.. “وكم لفينا وكم ساهرنا وكم مازحنا ليالي الصيف وكم غنينا للحرية”.. كان كل شيء اتهامًا: الأناقة، تسريحة الفتاة الجميلة، العطر، “النورمال جيتار” على اليد من غير بيت، “البوب” كان كبيرة الكبائر، وكل شيء ضدَّك، ضدَّنا، فقط ما ينفعك في أزمنة معتمة هو إيمانك، هو ما ينقذك في النهاية، إيمانك بك بنفسك وتحديك وشراستك الخاصة جدًّا التي تُبقي على جمر روحك متقدًا، وعلى ملامحك الوضيئة القسيمة بكل ذاك التوهج. 

إن جمالنا إلهي ينبع من الداخل، هِبة إله يُحبنا، ليس مثل إلههم إله الكراهية، والقتل والنفي والزنا.

إله للإنسان خلق الأنسان في صورته فكملّه وجمله كأحسن وأبهى ما يكون الكمال.

هذه كانت ثورتنا المباركة المتواصلة والتي لا تموت، ففي كل فرد منا يوجد ميدان اعتصام ونشيد للعلم. 

(3)

الوقت غير ملائم للوم أو ندب الحال، هكذا أعرف العالم،هذا الذي ودائمًا لا يحتمل البكاء مرتين.. أو كما ردد مغنى كسلا العظيم، محمد ود مطر، في تساؤل وجودي مهول وفسيح: “منو الفاتح كتاب الغيب.. ومين ورانا عمرنا كم!!”. فمن أفكار صغيرة وجمل وعبارات غير منتبه لها تولد الحكمة، حكمة الحياة نفسها، ففي هذا الدفق اللا شعوري يقبع الإنسان بذاته صافية ومجلوة مكللة بالجمال. لا يتعثر دفق إلا أوان لعثمة وتدبر متعمد لما نقول أو نفعل، كل شيء يوقف تدفق النهر بداخلنا هو ضدنا، عقبة في سبيل تحققنا كذات، في سبيل مضينا المبهج لحقائقنا الخلاقة كآدميين، إنسانيين صافين مبرأين من عقد التفاهة.

(4)

الجيل الراكب راس”، أكذوبة سخيفة، ابتلعتها أكذوبة أشد سخفًا هي “الجيل الما راكب راس”،. أضحك أجدني للمفارقة الغبية هذه.
دعوني أُفصّل الحالتين وأصفهما، حسب ما عايشت، كوني واحدًا من قلة قليلة؛ كما أسلفت لا تُعرِّف نفسها بعمرٍ محدد، أو جهة، أو حيز زماني يُصنف كجيل فلان أو “جيل جديد!”.
المهم:
توزعت كما هو معلوم لدى أكثركم في أكثر من اتجاه، في مسيرتي المهنية.. والمهم أكثر في ذات سنة ليست بعيدة طلب مني صديقي مجدي عكاشة، تقديم أمسية سياسية في دار المؤتمر السوداني بشمبات، كانت مبادرة أطلقها عكاشة ” نعم للسلام” تقريبًا، وجاءت محمودة عندي في سياق “القحة ولا صمة الخشم”، فعلا قدمت الأمسية، بحضور لفيف هههه بالمناسبة “لفيف” هذه مفردة عجيبة كدة!!. أها.. بحضور عدد مقدر من زعماء وقادة الأحزاب السياسية المناوئة للنظام، نظام البشير..
ملأوا المقاعد الأمامية بصرة وجوه عجيبة، “يشيلوا ويحمرّوا لي ههه” تخيلت هذا، وضحكت في سري.. وقالوا وقالوا ولم تنتهِ الأمسية إلا بتدخل الشاعر الأرهف والأشد ضياعًا من كل من عرفت من الشعراء الأصدقاء: عاصم الحزين، والذى عصف بالأمسية تمامًا وغيَّبها في غيابه هو الآخر..
قلت: “أحسن بدل كلامكم الفارغ عاصم، لخَّص ليكم كل شيء باللاشيء وبحشرجة محتضر”.
في مرة ثانية في العام 2015، كنت عضوًا بمكتب الإعلام للجنة الشبابية لمناهضة سدي دال وكجبار. وكنا أقمنا تحالفات خلاقة مع أكثر من جسم مطلبي بالبلاد، مطلقين شعار لا لتجزئة القضايا. كانت دورتنا أعظم دورة شهدتُها ليس باللجنة الشبابية لمناهضة سدي دال وكجبار، إنما بكل المنطقة النوبية منذ بعانخي تقريبًا، والتي وإلى لحظة كتابتي هذه، تتشبث بأوهام الماضي المُذهبّة، بينما يفرُّ الحاضر من بين أصابعها، كمثل باسط كفيه للماء وما هو ببالغ فيه. 
الحضارة الحضارة الحضارة..إلخ ثم ماذا؟! غير هذا اللاشيء الذي يبتلع أيامكم غير هذا اليسار الغبي الذي يحاصركم، وغير اليمين المتبلد الذي بدَّد أيامَكم وأرهق قلوبكم المرهفة.. إن كان للنوبي بعضٌ من أثر حضاري ماثل؛ فهو بالنسبة لي يتمثل في رهافته، رهافة قلبه، والحضارة كما يؤكد وول ديورنت: “تبدأ برقة المعاملة”. 
دون ذلك لا شيء غير الفشل، لأنَّ نفس عمل اللجنة بعد عام – فقط – احتلها آخرون وحوَّلوها لخواء وفراغ، بحجة أنَّهم “مُأمنين من جهاز الأمن.. ههه”، بينما النوبة تحتضر وتموت قبل أن يقوم سد دال أو كجبار، وقبل أن يُهجّر المساكين إلى خشم القربة، أرض الشقوق والضفادع والطحالب؛ غباء ما بعده غباء.
قدَّمت للأمسية، كتحالف بين لجنة مناهضة سدي دال وكجبار، ورابطة مزارعي المناقل والجزيرة. لا أذكر الاسم بالضبط، لكن كان يرأسُهم رجل شهم عظيم وملهم اسمه: “حسبو”؛ كان شخصًا عظيمًا ذا همة بالغة وإرادة، وهو السبعيني الذي قدَّم خطابه بصوت جهور وبنبرةٍ ثابت وكلمات حية مؤثرة. من منهل الصدق نهل فما ضل.
حدث موقف طريف بينما كنت أعد  لتقديم فقرة ثانية؛ وإذا بي أفاجأ بشخص بسَمت المساكين، وبإصرار طلب مني السماح له بتقديم كلمة لأنَّه من أهل حلفاية الملوك، والحكومة تغولت على أراضيهم وبدأت ببيعها. طبعًا هو لم يكن جزءًا من برنامجي، ولكن قضيته عادلة وإنسانية ومهمة وأيضًا ومطلبية. قدمته للحضور بلطف راجيًا منهم الإنصات له لدقائقَ معدودة، وفي ظني أن ثمة من سيتبنى قضيته أيضًا من “لفيف” السياسيين والقانونيين والنشطاء الموجودين بالمكان.
تحدث الشخص باقتضاب، وحكي قصته بغبن وحنق عظيمين، وفي النهاية مد إصبعه السبابة إلى السماء مهددًا البشير ونظامه بالله، وأنَّهم أهل فلاح أو كما قال: “والله نحنا ناس الحلفايا ديل ناس صلاح وشيوخ والله تقيفوا في وشنا نرفع يدنا دي لي الله، والله يزيلكم في دقايق” ، وكانت المفاجأة أنَّ الحضور من الصف الأول بعظمائه وحتى الأخير بدهمائه أن رفعوا أيديهم فوووق وبصوت واحد رددوا على المتحدث برجاء عجيب: “ياخ ما تدعوا لينا الله طيب”. 
(أنا أنهجمت والله، وقلت بالله ديل كلهم السياسيين العظيمين ديل واتباعهم.. جا زول يستنصرهم ويطلب دعمهم ووقوفهم معه)، وإذا بهم بحال يماثل ما صدح به المغني: “لقيتك أنت فوق للبر أشد غرق من الغرقان”.. سبحان الله!.

(5)

الجيل الراكب راس، ملهاة ثورية، جاء في الدقيقة “خمسة وعشرين”، وتخيّل بأنه صنع العالم، وهذا بالضبط ما ورطته فيه قوى الحرية والتغيير، والتي استغلت حماسه البيهج وتوقه الخلاق الحارق للحياة وللتغيير وللبطولة، فقدمته فداءً لشهواتها السلطوية. وعندما قدم تضحياته اللازمة وانقلبت الموازين لصالح حلمه في التغيير، اعتلت “قحت”، المنصة وابتلعته.

تركته يعتاش على فتات الذكرى، والشعارات الغبية، وأولئك الجيل (الراكب راس).. وراكب شنو ما عارف …الخ، حوَّلتهم للجان مقاومة يحرسونها بدل الثورة؛ “عِدَّة شغل”، تُخرجها كلما دخلت في مأزق مع العسكر. يذكرني هذا بما قاله شاعرنا العالمي مصعب الرمادي: “كلما دخلت أمة في مروج الحنين لعنت أختها”.. وفي هذه الملهاة العبثية، وبدل أن نبني الإنسان بالتواضع اللازم، والعمل والجهد؛ بنينا الخرافة والشعوذات رعيناها – كلها – وبقصدية تامة ومكتملة.
عاد الشباب – بعد تضحياتهم العظيمة – لموقعهم البائس كشباب للظل. التهمهم الفراغ والبنقو والندم.. إذ في هذا اللامعني الشامل يبتلع كل شيء.. كل شيء. 
وبدل أن تبني (قحت) الإنسان؛ هدمته! أبَّدَته في التفاهة وعززت انحطاطه، حولته لفرد أمن؛ “أمنجي” باسم الثورة، ومتشنج باسمها، وشهيد مع وقف التنفيذ باسمها. لا أحد في قوى الحرية والتغيير سيرد على اتهامي لهم بأنَّهم شركاء في المجزرة، وأنَّهم استغلوا الشباب المساكين كوقود لنيران التفاوض الميتة، ككرت ضغط يساومون به لأجل الوصول إلىالسلطة؛ أكثر منه طريقًا مضيئا للتغيير. وأنهم في كل مرة وبحال ممثال للقطة التي تأكل بنيها، تأكل من أبناء شعبنا بشراهة في كل منعطف باسم التضحية والثورة والعسكر والحفاظ على التغيير.
متناسية بقصد أنَّه لم يحدث تغيير بالأساس، وأنَّ الثورة أجهضت بالدم منذ صبيحة المجزرة المشؤومة، وأنَّها تحولت لملف سياسي رضوا أن يمضوا فيه بالتفاوض وبوثيقة دستورية معطوبة. كانوا يعرفون إلي أي منزلق يهوون بالبلاد وأهلها. 
لكنَّهم ما زالوا في غيهم يعمهون؛ يخدرون أيام الأولاد المساكين بالشعر وبالأناشيد والذكريات، ثم إنَّه لا أحد يعمل بصدق – أطلاقًا – لأجل ولكنَّهم ما زالوا في غيهم يعمهون؛ يخدرون أيام الأولاد المساكين بالشعر وبالأناشيد والذكريات، ثم إنَّه لا أحد يعمل بصدق – أطلاقًا – لأجل واقع جديد وحر يشبه الإنسان.5
19 ديسمبر أَتخيَّل (قحت) تفتح فمها – واسعًا – لابتلاع المزيد من الضحايا، “البكا بحرروه أهله”، دايرين يحررو البكاء..
في كل بيت من بيوت بلادنا المكلومة بيت عزاء؛ ولا معزيين، والقاتل الحقيقي حرٌّ، والذى كان سببًا في القتل حرٌّ وهم شركاء. كل شهيد سال دمه، يتحمل قاتله وزره مناصفة مع (قحت). هذا لأنَّها لم تقم بالأهم؛ لم تبنِ الإنسان.
على الشباب أن يقوموا بدورهم الخلَّاق في البناء، أن يتواضعوا أكثر، وأن يدركوا أنَّ أيَّ واحد منهم هو العالم بذاته، وأن دموع الوالدات غالية، وحزن الآباء أليم. لا وطن أهم منك، ولا إرادة تعلو فوق إرادتك. إن كنا نريد أن نغير – حقًّا – علينا أن نبدأ بأنفسنا؛ أن نفصل ذواتنا عن ضجيج العالم بوسائط تواصله المرهقة، بلجان مقاومته التائهة، وبشروره كلِّها، وأن نضطلع بالمهام المطلوبة: أن نبني أنفسنا أولًا، أن نحبَّ وننهمك في ذوات من نحب، نتطور بإمكانياتنا البسيطة، العامل يعمل والطالب يقرأ ويمضي في سبيل تعلُّمه، والمحبُّ يحبُّ ويفتح بيتًا وينتج حياة ع محامرة بالحنان وبالصدق. 
اعمروا حيواتٍكم بالمزيد من الحياة، بالندوات، الحراكات الثقافية الخلَّاقة، بالاحتضان والتفهم والوعي اللازم والضروري لبناء ذاتٍ حرَّةٍ. “الذات عالم بذاته”؛ أو كما قال: “وتزعُم أنَّك جُرم صغير… وفيك انطوى العالم الأكبر؟!”.
أنت – نفسك – العالم. لذلك أرجوك لا تضيع عالمًا بحاله لأجل لا شيءَ أو لأجل شهوة تملُّكٍ تقف وراءه جهة تفلح – فقط – في “المديدة حرقتني”. لا تسمحوا – أبدًا – بشيء كهذا. لقد فشلت “قحت” في كل شيء؛ أدينوها مناصفة كما تدينون العسكر، قفوا ضدَّهم جميعًا وعرُّوا ظهورهم للتاريخ. 
السؤال المهم هو ماذا ستنتجون من أفكار ومن حياة؟.
المزيد من المقاومة ليس بالهتاف، إنَّما بالعمل المتواصل على الذات، والتواضع، تحقيق النضج اللازم لفهم حقيقة أنفسنا والعالم. إن كان بناء البلاد قد تأخَّر، لظروف معلومة، فإنه بيدنا ما هو أهم: بناؤنا ذواتنا نحن، بناء أنفسنا، بناء الإنسان. هذا – بالضبط – ما لا يفهمه السياسي السوداني قاصر الفكر والنظر. 
منذ ما بعد 30 يونيو2019، كنت أتوقع أن نمضي إلى هذه الغاية: أن نرمم خاطرنا المكسور، ونجبر كسره، وأن نفيق من هول وفجيعة الصدمة بالتحلي – أكثر – بالحكمة، وأن نصغي لصوت العقل، وأن لا نسمح – إطلاقًا – لأي جهة وتحت أي مسمى باستغلالنا. أن نعلن حدادًا وطنيًّا شاملًا؛ حتى لا نكرر تجربة الفشل لأجل أن لا تسيل قطرة دم واحدة؛ مرة أخرى وللأبد. 
لكنَّ شيئًا من هذا لم ولن يحدث. والنتيجة إذا فشل الكائن “الغافل من ظن الأشياء هي الأشياء” ..6لو كان للتاريخ غاية، لكان مصيرنا يثير الرثاء، نحن الذين لم ننجز شيئًا. أما في هذا اللامعنى الشامل، فقد بات في وسعنا نحن الحقراء الصعاليك الذين لا جدوى لهم، أن نرفع رؤوسنا فخورين بكوننا كنَّا على حق. “إميل سيوران”.

‫2 تعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى