قصة

سبِيَّة الألفية الثالثة

لا أعلم كم مضى من الوقت لإدراك أنني تحولت إلى سلعة، تباع وتشترى والثمن بخس، جارية منزوعة الإرادة تقاد إلى حيث يرغب المشتري، ووفقا لما يناسبه من وقت، ساعات، يوم، وأحيانا لأشهر عديدة. قصّة

بقلم : سلمى عبدالعزيز

الجمال لعنة، هذه عُصارة تجربة مريرة عِشتها مرغمة، بيد أني أمسكت بالقلم، رسمت طريقي ومضيت.

أنا وردة؛ فتاة سُّودانية تجاوزت العشرين عاما ببضعة أشهر وبضعة أيام. جميلة؟! “نعم”، وكان ذاك الجمال “مصدر رزقي!” .

رأسا على عقب 

صبيحة يوم قاتم، تخلت عني من ظننتها سندي الأبدي؛ أمي التي كُنت أخشى أن تموت فجأة، فاتسلسل ليلا أستمع إلى نبضات قلبها ليطمئن قلبي وأنام. 

تركتني على مقربة من بوابة دار المايقوما لإيواء الأطفال فاقدي السند. سمعتها تقول لسيدة أمسكت يدي بقوة:

“إنها ابنتي، تركتها لله ولكِ” .

ثْم انصرفت غير آبهة بصرخة أطلقتها فزعة وأنا أحاول الفكاك من قبضة المرأة القاسية؛ دون جدوى. 

تقول وردة *، وهو اسم مستعار اختارته لنفسها لـ(story news) : انقلبت حياتي رأسا على عقب،وأصبحت طفلة مُشردة كما أطلق علي المارة. استخدمتني السيدة كدمية؛ تارة أبيع الحلويات والمناديل على الأرصفة وفي الأسواق، وتارة أخرى أتسول أمام أبواب المساجد والفنادق الفخمة.

كنت طفلة ولم أسلم من الذئاب البشرية؛ سيما في الفنادق والمتنزهات. تعرضت لمحاولات تحرش لا تعد ولا تحصى، وجُلها من رجال كبار في السن. بحثت فيهم عن أب لم أره يوما، وأمان لم أشعر به منذ أن تركتني أمي.

تقول: “إن الجوع والمرض والنوم بلا مأوى صيفا وشتاء، الأيادي المتربصة بجسدي الغض خلسة أو عنوة، كلها أسباب جعلتني اتخذ قرار الفرار من ذاك الجحيم”. 

هربت وانا لا أعلم إلى أين أتجه، وكيف سأعيش. هربت وصوت السيدة يكاد يشق أذني: “كان مشيتي السما بجيبك” .

كنت أبحث عن سماء لن تجدني فيها، ولم أكن أعلم أن المعاناة التي عرفتها بالعيش معها لم تكن سوى غيض من فيض. 

عشت لأسابيع عديدة في الشوارع، أقتات من القمامة، أنام مع القطط وأتحدث معها، إلى أن جمعتني الصدفة به؛ رجل في مطلع الخمسين، ذو قوام فاره، يبدو على سيماه الغنى. 

أخذني معه إلى عوالم لم أختبرها قط، حيث مشاعر الإنسانية لا وجود لها، الكلمة العليا للمال وحده… ماذا تريد؟ بماذا تشعر؟ غير مهم، المهم فقط الطاعة وقول “نعم” بخنوع تام ودلال مصطنع.

لا أعلم كم مضى من الوقت لإدراك أنني تحولت إلى سلعة، تباع وتشترى والثمن بخس، جارية منزوعة الإرادة تقاد إلى حيث يرغب المشتري، ووفقا لما يناسبه من وقت، ساعات، يوم، وأحيانا لأشهر عديدة..

كنت السبيّة، مخطئ من يظن أنها عادة انقرضت في الجاهلية الأولى…

 نقطة تحول

كنت الجسد الذي اغتصبه العشرات، والمحصلة هذه الطفلة التي لا أعلم من والدها.

هذه الطفلة التي تمسك بيدي الآن، هي الدافع الوحيد الذي جعلني أحزم أمري، أستعيد ما تبقى من رباطة جأشي، وأنهض لأقاوم، من أجلها، لأنني وحدي من يعلم، ماذا يعني أن تتخلى أم عن ابنتها في منتصف الطريق. أنا اعلم جيدا ماذا يحدث لو قررت الاستسلام وتركها تجابه تيار الحياة المندفع وحدها. ستسقط مرارًا، دون أن تجد يدا حانية تمتد إليها. ستمرض مرار ولن تجد الدواء، ستجوع ولن تجد لقمة تسد بها الرمق بكرامة وبلا مقابل باهظ الثمن.

 هروب إلى المجهول

كنت أعلم أنني سأنجح، لم أكن أملك خيارا آخر، إما النجاة أو الموت… 

قُبيل الفرار بأيام، بعت كل ما أملك، القليل من الحلي، جمعتها من عرق جسدي لمجابهة سواد الأيام، ولا أعتقد أن يوما أحوج إليها من هذا.. 

إن لم أنجح سأعود أسيرة مجددًا، هذه المرة لن أباع وحدي؛ معي “مرام” .

يمَمت وجهتي إلى الميناء البري،وهناك سألت كيف يمكنني السفر إلى “تشاد”،  أخبرتني صديقة تعرفت عليها من خلال فيسبوك، أنها تمكنت من اللجوء إلى فرنسا عبر هذه الدولة الأفريقية الصغيرة… 

خيط صغير من الأمل تتبعته ووصلت… 

قبيل إكمالها الجملة أجهشت محدتثتنا بالبكاء. سمعت صوتا طفوليا بريئا يحاول تهدأتها عبر الهاتف: “ماما ما تبكي”، فعلمت أنها مرام… المنقذة كما تحب والدتها أن تسميها….

 تختم وردة حديثها لـ( story news ) بقولها : “لم يكن الطريق إلى معسكر كاليه *سهلا، فشلت مرات عديدة، ولكني تمكنت من العبور. الآن أنا موظفة أعمل بدوام كامل في متجر لبيع الأحذية. أعيش بمعية ابنتي في منزل منحته لي الدولة؛ أقل ما يمكن وصفه بالجميل. أوقن أنني أستطيع تربية صغيرتي وتعليمها جيدا. أريدها أن تصبح طبيبة. ضحكت بصوت عال، مازحتها أخيرا، تضحكين، قالت وبحة خفيفة تمازج صوتها: “سأظل أضحك، طالما ابنتي وأنا بخير، نملك حرية الاختيار، ورفاهية أن نقول “لا” وقتما نريد.

—————————————

تنويه

*وردة . إسم مستعار اختارته بطلة القصّة لنفسها

*تم إجراء هذه المقابلة عن طرق الهاتف

*الرسومات المُستخدمة في القصة للفنان التشكيلي محمد عبدالرسول

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى